دروس مستفادة من قصة صعود اللغة الإنجليزية

لا يخفى على أحد أن اللغة الإنجليزية اليوم هي لغة عالمية تكاد تكون لغة العالم، لكننا نعلم من استعراض تاريخ العالم والحضارات أن لكل شيء نهاية مهما بدا قويًا، والواقع أن العالم يبحث اليوم عن وريثة للغة الإنجليزية، ويبدو أن الأنظار تتوجه نحو اللغة الصينية، وهو شيء أستبعده بناءًا على معرفتي المحدودة حيث طبيعة اللغة الصينية وسياقها يجعل العوائق أمامها أكبر من الفرص، لكن مع ذلك كل شيء متوقع.

وفي هذا المقال أحاول مناقشة بعض عوامل صعود اللغة الإنجليزية وتحولها للغة عالمية لأقارنها بالفرص المتاحة للغة العربية لتصبح لغة عالمية أيضًا أو على الأقل لتحصل على نصيبها المستحَق في ركب الحضارة.

صعود اللغة الإنجليزية وسيطرتها على العالم
  1. في البداية يلوح أمامنا قوتين عظيمتين ورثتا حكم العالم في القرنين الأخيرين، إحداهما كانت الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس والتي استعمرت ما يقارب ربع الكرة الأرضية في وقتها. ولنعلم أهميتها يكفينا معرفة أن اللغة الإنجليزية قبلها لم تكن إلا لغة محلية خاصة بالجزر البريطانية، وبمجرد توجه البريطانيين للتجارة في آسيا وأفريقيا بدأ استعمال اللغة يسود في التعاملات التجارية والإدارية. كان الانتشار في ذلك الوقت طبيعيًا حيث ظل سكان الأراضي المحتلة يتعاملون بلغاتهم الأصلية في الحياة اليومية.
    أما القوة الثانية فكانت الولايات المتحدة الأمريكية التي ظهرت كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت بالتجارة وتوسعت شركاتها مثلما علت بريطانيا من قبل ثم بالقوة العسكرية والسياسية.
    كل هذا وفر للغة الإنجليزية قوى سياسية متعاقبة تحميها وأعطاها فرصة أطول لتزدهر، وهذا هو ما يعنينا، فعندما كانت دولة الخلافة الإسلامية الراشدة ثم الأموية راعية للغة العربية باعتبارها لغة للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة توسعت اللغة العربية وازدهرت في ربوع العالم وتبنتها نسبة لا بأس بها من شعوب العالم القديم أو على الأقل تبنت أبجديتها، ولما تحول الأمر عن دعم العربية في الدولتين العباسية والعثمانية تراجعت اللغة العربية أيما تراجع نشهد أثره إلى اليوم، ولولا أنها لغة محفوظة بفضل القرآن الكريم والإسلام لماتت تماما منذ زمن.
    الخلاصة: الرعاية السياسية عامل مهم في إحياء اللغة العربية، يجب أن تنتفض حكومة ما لدعم العربية وتجعل الأمر مشروعها الخاص.
  2. الخطوة الثانية التي تلت حصول اللغة الإنجليزية على دعم سياسي على المستويين الإداري والتجاري كان دعمها من القوتين على مستوى النخبة، فأصبح التعليم - الذي هو أحد المصاعد الاجتماعية - باللغة الإنجليزية، ودائمًا تسعى الشعوب لتقليد النخب.
    نفس الشيء حدث عندا حرصت أمريكا على تعزيز ثقافتها من خلال الموسيقى والأفلام والرياضة ونشرها في كل مكان، حتى أنه في بلادنا العربية كانت كلمة "أجنبي" مرادفة لكلمة "ناطق باللغة الإنجليزية" ولفترة طويلة.
  3. بالتالي أصبحت اللغة الإنجليزية مرتبطة بالترويج لنمط حياة معين مرتبط بالنجاح والترفيه على الطريقة الأمريكية، لغة إعلانية بالدرجة الأولى، اللغة التي سيعتمدها أي صاحب عمل أو إنتاج ما لترويج بضاعته أو أفكاره. صُنِعَت تلك الصورة النمطية بتضافر عوامل كثيرة.
    وهذا نراه إلى الآن، إذا كنت عربيًا وتحدثت بالإنجليزية أو أدخلت عدة كلمات إنجليزية في كل جملة تقولها فإن هذا دليل على سعة ثقافتك حتى لو كان كلامك ضحلًا لا فائدة منه، وفي المقابل أصبحنا نخشى ونخجل من التحدث بالفصحى، أصبح الأمر معيبًا، واستحضر معي كل التشويه الذي حدث للغة العربية في العقلية العربية ذاتها قبل أية ثقافة أخرى، لن تسعفك ذاكرتك إلا بشيوخ أزهريين "مفاجيع" منافقين يبيعون دينهم بدنياهم ملأت السينما والدراما عقلك بصورهم، أو معلمي لغة عربية فقراء يرتدون المرقع، أو في أحسن الأحوال سترى صورة أبي جهل المثيرة للضحك وهو يقول "نأخذ من كل قبيلة رجل". ستكتشف أنه ليس لدى الناس رصيد من الصورة النمطية يعينهم على التمسك بعربيتهم.
  4. إذا اعتبرنا بريطانيا وأمريكا هما القوتان العظيمتان اللتان دعمتا اللغة الإنجليزية فيمكنك أن تعتبر التكنولوجيا والشابكة الدولية بمثابة القوة الثالثة، بما أن الشابكة خرج من الولايات المتحدة فإن كل ما يخص الحواسيب والشابكة قد خرج للعالم في نسخته الأولى باللغة الإنجليزية فأضاف هذا كلمات إنجليزية غزت كل لغات العالم مرتبطة بالمنتجات الجديدة. يسمون هذا بتأثير كرة الثلج، فبما أن اللغة الإنجليزية منتشرة بالفعل في كل مكان ومنصة حولنا فإن هذا يجعل من الصعب الهروب من تأثيرها، فنشطت الدروس الخاصة بها ورحلات السياحة التعليمية بغرض إتقانها لأن إتقانها أصبح من لوازم أي سلوك لطريق النجاح، وبالتالي صنعت اقتصادًا قائمًا عليها، هذا الاقتصاد حريص على تنميتها أكثر.

عندما نطبق هذا على اللغة العربية نجد أننا لم نقدم شيئًا جديدًا للعالم منذ قرون، لكن رغم سوداوية الصورة فإن هناك شيء يمكننا الاعتماد عليه لأن العالم لا يملك مثله وهو ببساطة دين الإسلام، وواضح لكل دارس للتاريخ أو متابع لأخبار المجال الدعوي أنه ما من شيء أدخل للغات العالم كلمات عربية بقدر ما أدخل إليها الإسلام، وهذا شيء يمكننا أن نتدارسه في مقال آخر إن شاء الله، لكن مؤقتًا أود التأكيد على أن المشروع الدعوي ومشروع اللغة العربية هما مشروعان متوازيان يمكن لكلاهما أن يقدم للآخر خدمات لا حصر لها.

وأستشهد أخيرًا بما كتبه د. تمام حسان في مقدمة كتابه "مناهج البحث في اللغة" مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين انتشار لغة الأمة وانتشار ثقافتها وتعزيزها بأقل تكلفة:

"... فإن أكثر الأمم جلبًا للأصدقاء هي تلك التي تعمل على تعريف الأمم الأخرى بها، سواء في ماضيها أو في حاضرها أو في آمالها الطموحة إلى المستقبل. فإذا كانت اللغة خير وسيلة لهذا التعريف فما أخطر اللغة إذًا! لأن الأمة تستطيع أن تكسب الأصدقاء لنفسها إذا عملت على أن يكثر عدد العالمين بلغتها من الأجانب. وكل أجنبي يتعلم لغتك مكسب لك؛ لأنه يجد نفسه أكثر استعداداً للشعور بما تشعر والتفكير كما تفكر ويعطف على آمالك وآلامك التي تعلَّمها من قراءة لغتك والكلام بها."

"فطن الأوربيون إلى ذلك منذ زمن بعيد؛ فأنشأوا مدارس لهم في البلاد الأجنبية تعلم لغاتهم؛ فكانت لغاتهم أول سلاح من أسلحة السيطرة على البلاد التي استعمروها؛ لأن اللغة كانت القنطرة التي عبرت عليها المسيحية من عقل الأورُبِّي إلى عقل الأفريقي والأسيوي، كما كان الإسلام من قبل يسير جنبًا إلى جنب مع اللغة العربية. ولعل المجلس البريطاني قد كسب لانجلترا من الاصدقاء ما لم تحلم به سفاراتها وبعثاتها السياسية."



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مثال لتعريب مصطلحات تطبيق ميتا الجديد | خيوط Threads

شواهد في محدودية قوة مَن تخشاه مهما امتلك من أسباب القوة

متى نصل إلى جواز سفر إفريقي موحد؟