الفوائد المجنية من تدريس الأقران - الإمام النووي أنموذجًا

قد يُتَساءَل عن الفائدة المجنية إثر تدريس الآخرين كالزملاء في الجامعة، وعن أفضل الطرق المتبعة لإيصال المعلومة بسهولة.

مبدئيًا فهذا الأسلوب في الدراسة اسمه تدريس الأقران peer teaching أو peer tutoring وهو أسلوب تعليمي جيد يفيد كلًا من المتعلم والمعلم ربما بنفس القدر.

ومن فوائده التي يضيفها للشارح:

  1. الثواب الذين قد يحضل عليه باستحضار نوايا مساعدة الناس ونشر علم يُنتَفَع به وملأ أوقات الفراغ بالخير الخ.
  2. مضاعفة الفائدة من المذاكرة بجعل أكثر من شخص ينتفعون منها.
  3. العمل على شرح المحتوى لغيرك يساهم في زيادة استيعابك له؛ فمن المعروف أنه لكي أستطيع شرح موضوع ما لأحد الأشخاص يجب أن يكون مستوى فهمي لهذا الموضوع أكبر ما يكون، وسأحاول أن أفهم الموضوع من عدة جوانب لأكون قادرًا على الرد على أسئلته المتوقعة. يتحول هدف نشاط المذاكرة هنا من (مجرد الفهم) إلى (الرغبة في الإفهام)، يتطلب هذا فهمًا أعمق قد يمشف لنا أفكارًا جديدة لم تطرأ على عقولنا من قبل.
  4. المجهود المبذول من الشارح لتلخيص وإعادة صياغة المعلومات لتبسيطها وتقديمها بشكل يناسب مَن أمامك هو نوع من المذاكرة الفعالة، ولا يضيع وقته وهو يقوم به لأنه واقعيًا يذاكر، ويُحدِث هذا شعورًا أقل بالملل.
  5. كما أن ارتباط الشارح بموعد لشرح درس ما لبعض الأشخاص هو حافز للمذاكرة.


ومن الطرق المتبعة لإيصال المعلومات بسهولة:

  1. تلخيص المحتويات الطويلة وحذف المعلومات غير ذات الأهمية، وترتيب المحتوى في عناوين عريضة منظمة ومتسلسلة الأفكار.
  2. تفصيل الأجزاء المُبهمة.
  3. البحث عن الروابط بين المواضيع التي تبدو غير مترابطة وتقديمها.
  4. استخدام المخططات والجداول والرسوم وضرب الأمثلة.
وعن تجربة فإنني عندما كان يشق عليَّ فهم موضوع ما أو أجد في نفسي تكاسلًا عن دراسته كنت أقوم بإعداد ملخص له أشرحه فيه وأرتبه في مواضيع أصغر وأقسمه إلى نقاط فرعية وأنشره على المجموعة الخاصة بالدُفعة على مواقع التواصل.

كنت أفعل هذا لإجبار نفسي على دراسة الأمر الذي أراه معقدًا لأن أكثر ما كنت أشعر بالتميز والمتعة فيه هو إعادة صياغة المعلومات المعقدة إلى معلومات بسيطة في صورة نقاط أو جداول مثلًا. وأحيانًا كنت أتلقى أسئلة من أقراني الذين يعتقدون أنني مُلِم بالموضوع بالكامل، وكنت أجدها صعبة لكن بمجرد أن أبحث عن حلول لها في الكتب الدراسية أجد أنها قابلة للحل.

وكانت هذه الطريقة مُجدية جدًا ودائمًا ما كانت تنجح في إرغامي على الفهم والبحث. يعني هو شيء أنا اكتشفته بالتجربة ولم أكن أعلم أن له أساس في مجال التعلم الذاتي.

لاحقًا قرأت مقولة منسوبة لأينشتاين يقول فيها: "إذا لم تستطع أن تشرح فكرة ببساطة فأنت لم تفهمها بعد."

وكنت متفقًا تمامًا معها، ثم علمت لاحقًا بوجود تقنية تسمى تقنية فاينمان تلخص هذا الأمر؛ وفيه عليك أن تشرح الفكرة لغيرك لتُصقِل فهمك لها، وإذا وجدت صعوبة في شرح جزئية ما فإن عليك العودة ومراجعتها من مصادر تعلمك وتعود لتشرحها. وكان هذا هو تمامًا ما كنت أفعله بدون أن أعلم بوجود هذا الأسلوب. وهناك مقطع مرئي للشاب سكوت يونغ أحد أشهر مدربي التعلم الذاتي يشرح فيه تلك التقنية.

وما جعلني أفتح الموضوع الآن وأعيد الكتابة فيه هو أنني قرأت في كتاب "مسلكيات" للشيخ إبراهيم السكران، وفيه أن الإمام النووي رحمه الله بدأ في طلب العلم وهو في سن التاسعة عشر وتوفى في السادسة والأربعين ومع ذلك هو من أغزر العلماء تأليفًا.


ويقول الذهبي: «وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهَجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد على الشيوخ». وذكر قطب الدين اليونيني أنه كان لا يضيع له وقت في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إنه في ذهابه في الطريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظة أو مطالعة، وإنه بقي على التحصيل على هذا الوجه ست سنين. وحكى بدر الدين بن جماعة أنه سأله عن نومه، فقال: «إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه».

وما كان يفعله النووي بعد ست سنوات من طلب العلم هو أنه كان يضع التلخيصات للكتب التي يقرأها بهدف التحصيل، يسمي إبراهيم السكران هذا الأسلوب "التصنيف التحصيلي" أو "التأليف بهدف التعلم" إذ يقول عنه الإسنوي "جعل تصنيفه تحصيلًا وتحصيله تصنيفًا".

ولهذا الأسلوب أصول أقدم من النووي إذ يقول الخطيب البغدادي نقلًا عن بعض شيوخه في الحث على تحويل الكتابة الشخصية للتعلم إلى كتابة تصنيفية "مَن أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج". وعلق البقاعي على هذه العبارة قائلاً "لأن الناسخ لا يتأمل في الغالب ما يكتبه، وإن تأمل لم يمعن، بخلاف المخرج فإنه يحتاج أن يتأمل حق التأمل" وقوله "من أراد الفائدة" يعني بالتأليف لنفع الطالب نفسه قبل نفع الناس.

ويستمر السكران في ضرب المثل بنماذج حديثة مفادها أن الباحث يقرأ عددًا كبيرًا جدًا من المؤلفات ليخرج في النهاية بأطروحة بها عدد قليل من المراجع، ولولا احتياجه للتصنيف وكتابة الرسالة العلمية لما قرأ كل تلك المؤلفات.

وكذلك كون الفائدة العائدة من العمل على مشروعات التخرج قد يكون أضعاف ما يستفيده الطالب من تلقي العلم لأربع سنوات أو أكثر، وأن تدريس العلم ليس مرحلة تالية للتعلم بل هو من وسائل التعلم وأدواته إذ يورد عددًا من المرويات عن طلبة العلم الذين يُحدِّثون بالأحاديث ليحفظوها هم أنفسهم ويضرب المثل بالناقد الأدبي إدوارد سعيد في داخل أحد كتبه معنونة بـ "لطالما تعلمت أثناء الدرس" وغيره من الأمثلة الماتعة التي ينبغي على طالب العلم أن يستفيد منها لينشط المجتمع العلمي ويزيد إنتاجه وتبادل المنفعة وبركات طلب العلم وتعليمه.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مثال لتعريب مصطلحات تطبيق ميتا الجديد | خيوط Threads

شواهد في محدودية قوة مَن تخشاه مهما امتلك من أسباب القوة

متى نصل إلى جواز سفر إفريقي موحد؟