إن ماتت العربية ماتت الوسيلة إلى الدين يا أهل الإسلام

خرجتُ للتوِّ منْ خطبةِ جمعة ألقاها خطيبها الأزهريُ كاملةً بالعربية الفصحى، ربما لم ترد منه كلمة عامية أو كلمتين منذ صعد إلى المنبر حتى أنهى الصلاة، ولا أخفيكم أنني شعرتُ بتعجبٍ من استرسال الخطيب في عرض أفكاره بالعربية الفصحى مستشهدًا بآيات من القرآن الكريم موردًا مواضعها من كل سورة بلا أدنى حاجة لشرح أو تفسير ما يقول إذ أغنى أسلوب الشرح الهاديء عن الحاجة للتفسير؛ فهذه لغتنا مهما ابتعدنا عنها ومهما تكلمنا بعاميات مليئة بكلمات وأساليب أعجمية ومهما كان مستوى المستمعين بسيطًا.

إنَّ أولئك البسطاء الذين لم يتعلموا في المدارس ولم يعرفوا في حيواتهم إلا لغتهم التي اكتسبوها سماعيًا يُسمون "أميين" وتسمى اللغة التي اكتسبوها "اللغة الأم". كم ابتعدنا عن لغتنا التي هي بمثابة أمنا الرؤوم وانزلقنا في جحر الضب نقدس لغات العالم كله وننافح عن أدنى خطأ في نطقها أو قواعدها حتى بتنا نشتاق إلى حديث خطيب مسجد بالعربية!

وأنت أخبرني: كم عدد الخطباء والشيوخ الذين تعرفهم ممن يحرصون على اللغة العربية الفصيحة البسيطة في خطابهم! ألا ترى أن عددهم ربما أقل من عدد أصابع إحدى يديك! ألا ترى أن العربية الفصحى خرجت من حياتنا وباتت شيئًا من الماضي والزمن الجميل الذي لا نملك في الغالب إلا أن نعبر عن مدى حنيننا إليه!

ألا ترى أن العربية قد غابت عن دورها الحقيقي كلغة للتواصل بين الناس وأننا نعاني في مجتمعاتنا العربية من ازدواجية لُغوية تطغى فيها العاميات المُفرِقة والدوارج المشتِتَة على اللغة الأم الجامعة!


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "فإنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون"

وقال "اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيراً قويّاً بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضاً فإنّ نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب"

وقال "معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً"

وقال رحمه الله "فمعرفة العربية التي خُوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإنّ عامّة ضلال أهم البدع كان بهذا السبب، فإنّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدّعون أنّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك"

وهو ما رآه السلف ونص عليه مالك والشافعي وأحمد وكبار العلماء رحمهم الله، إذ قال الإمام مالك رحمه الله "مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه"

وقال الشافعي "فإنّ من جَهِلَ سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جَهِلَ جُملَ علم الكتاب، ومن علمها ووقف على مذاهبها وفَهِم ما تأوّله أهل التفسير فيها زالت عنه الشبه الدَّاخلةُ على من جَهِلَ لسانها من ذوي الأهواء والبدع"

وكره الإمام أحمد الرَطانة وتسميةِ الشهورِ بالأسماءِ الأعجميّةِ؛ لئلا يتعوّد الرجل النطقَ بغير العربية.

وقال ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله "وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها..." مصدر الاقتباسات

ألا ترى معي أننا سنُسأل أمام الله عز وجل عن تضييعنا لواحدة من أهم وسائل إيصال الدين وبقاءه وعزته! ألا يكفيك دليلًا أننا بتنا لا نفهم من القرآن الكريم والسنة المطهرة إلا القشور! أما زلت لا ترى أن اللغة العربية من الدين وأننا بتضييع الفصحى نضيع الدين!

فهل من فتى يشمر الساعد ويقول ها أنا ذا ويتلمس الطريق الحالك يدفعه الإشفاق من ضياع دينه ولغته وهويته معًا مستدعيًا قولة حافظ إبراهيم رحمه الله على لسان العربية لأبنائها:

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني *** أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مثال لتعريب مصطلحات تطبيق ميتا الجديد | خيوط Threads

شواهد في محدودية قوة مَن تخشاه مهما امتلك من أسباب القوة

متى نصل إلى جواز سفر إفريقي موحد؟