غيرت كلماتُكَ الواقعَ وأنتَ لا تدري.

دخلَ ذلك الرجل إلى مسجد بلدتنا الصغير وصلى معنا العشاء، ثم تقدم طالبًا من شيخ المسجد أن يسمح له ومن الناس أن يبقوا قليلًا ليلقي كلمة. وكانت كلمته التي لم تتجاوز العشر دقائق عن الخشوع في الصلاة، لم يتكلم كلامًا محضًا، بل بدأ يعلمنا عمليًا كيف نطمأن في صلاتنا وطلب من بعض الموجودين تشغيل ساعة التوقف ليحسب كيف أن عشرة تسبيحات مطمئنة في ركوعٍ أو سجودٍ لا تأخذ من الوقت شيء، لكنها تؤثر بشكل عميق في صلاة المرء. كنتُ أنا وابن عمي ممن تأثروا بخطابه الذي رأيناه صادقًا مهتمًا وليس إنشائيًا جافًا. لكن بمجرد أن تكلم الرجل مع شيخ المسجد وطلب منه أن يخشع بالناس في الصلاة حتى ثارت الثائرة ممن نحسب أن لهم مصلحة وغيرة على الإمام. وبدأوا والإمام معهم في سرد الدلائل على وجوب "التخفيف" في صلاة الجماعة. غادرنا أنا وابن عمي ويشهد الله أن رد فعلهم على هذا الرجل أزعجنا، وأن نصيحته العملية عن الخشوع في الصلاة أثرت في صلاتنا ربما إلى اليوم، فسبحان الله العظيم الذي بيده مفاتيح القلوب والقَبول.

لاحقًا وبعد شهور أو سنوات، اضطررت مرة للصلاة في مسجد المحطة، وإذ بي أجد رجلًا يقترب مني ويأمرني بعدم تشمير سروالي في الصلاة. كان ذلك الشيخ نفسه والذي صلى بنا الظهر وقام لقول كلمةٍ لا أذكر موضوعها، لكن ثارت ثائرة البعض كما حدث في مسجدنا، وكان الشيخ كحاله الأول يرد بهدوء على اتهاماتهم له بالـ"منظرة العلمية" حسب ما أذكر وكأنه اعتاد هذا الاتهام.


الشاهد: هذا الرجل وأمثاله - أحسبهم والله حسيبهم - من موانع العذاب عن هذه الأمة؛ إذ أنهم ما زالوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. تتفق أو تختلف مع أسلوبهم، قد يمارسون الأمر بغلظة تنفرك أحيانًا منهم، قد يداخلك الشك في سبب فعلهم هذا وأنهم يستفيدون منه بشكل أو بآخر، قد ترى أنهم غير ملتزمين كليًا بما يأمرونك به وأن لهم نقائصهم. لكن تأكد تمامًا أن عليك أن تحترمهم وأن تناصرهم - وأنا نادم على عدم فعلي ذلك - إذ أنهم يدعون إلى حق ويبنون، وغيرهم يدعون إلى الباطل ويهدم ثم يجد من يحترمه ويبرر له ويعطيه الحق في حرية التعبير. كما أن عليك يا أخي أن تنحو نفس النحو وتبدأ بنفسك فتأمرها وتنهاها ثم دائرتك الضيقة فالأوسع؛ فتركك للإصلاح سيطولك في بيتك عاجلًا أو آجلًا وإن أغلقت عليك بابك.

ولا تقل لنفسك أنني أعصي الله فكيف أنهى غيري عن العصيان! ولا أطيعه - عز وجل - فكيف آمر غيري بالطاعة! أليس ذلك نفاقًا؟ والحق كل الحق أن ذلك ليس نفاقًا، فلا يخدعك الشيطان فهو لا يريد منك إلا أن تنشغل بعيوب نفسك عن الإصلاح. ولقد قال أحد العلماء أنه يجب حتى على من يتعاطون كؤوس الخمر أن ينهى بعضهم البعض، وألا يمنعهم وقوعهم في المعصية من الدعوة إلى تركها؛ فلعل بعضهم يتأثر بدعوة بعض، ولعل كلمة تؤثر في من لا يعلمه إلا الله ولعل مبلَّغ أوعى من سامع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مثال لتعريب مصطلحات تطبيق ميتا الجديد | خيوط Threads

شواهد في محدودية قوة مَن تخشاه مهما امتلك من أسباب القوة

متى نصل إلى جواز سفر إفريقي موحد؟